فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في ظن:
الظَنّ: علم يحصل من مجرَّد أَمَارة، ومتى قَوِيَتْ أَدّت إِلى العِلم، ومتى ضعُفت جدًّا لم يَتجاوز حَدّ التوهّم، ومتى قَوِىَ أَو تُصوّر بصورة القوىّ استُعمل معه أَنَّ المثقَّلة وأَنِ المخففة منها، ومَتى ضعف استُعمل معه أَنِ المتخصّة بالمعدوم من القول والفعل.
وجمع الظنّ: ظُنُونٌ وأَظانِينُ.
وفى الأَحاديث القُدسيّة: «أَنا عند ظنّ عبدى بى، وأَنا معه إِذا ذكرنى».
وفى الحديث الصّحيح: «إِيّاكم والظنّ، فإِن الظنّ أَكذب الحديث».
وقال: «لايموتَنّ أَحدكم إِلاَّ وهو يحسن الظنّ بالله».
قال الشاعر:
أَحسنتَ ظنَّك بالأَيَّام إِذْ حَسُنت ** ولم تخَفْ سُوءَ ما يأتى به القَدَرُ

وسالَمَتْكَ اللَّيالى فاغتررتَ بها ** وعند صفْو الليالى يحدُث الكَدَرُ

وقد ورد الظنّ في القرآن مجملًا على أَربعة أَوجه:
بمعنى اليقين، وبمعنى الشكّ، وبمعنى التُهَمة، وبمعنى الحُسْبَان.
فالذي بمعنى اليقين في عشرة مواضع: {يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ} {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ} {أَلا يَظُنُّ أُوْلَائِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} يعنى رُكَّاب السّفن في البحر.
{وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} يعنى المتخلِّفين من غزوة تَبُوك.
{إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}.
وأَمّا الذي بمعنى الشكّ والتُهَمَة فعل وجوه مختلفة: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} لن نضيّق عليه.
{مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ} {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ} يعنى في حرْب الأَحزاب، {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} يعنى اليهود.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} يعنى المنافقين في حقّ المؤمنين.
{الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}.
{إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا} يعنى في حقّيّة البعث، {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ} يعنى بنى قُرَيْظَة وحصونهم.
{إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ}.
{إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى} يعنى أَبا جهل ظنّ أَن لا يعاد.
وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} يعنى أَنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم غيرُ متَّهم فيما يقول.
والظنّ في كثير من الأُمور مذموم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وقال تعالى: {اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
وفيه ظِنَّه، أَى تُهَمة.
وهو ظِنَّتى، أَى موضع تُهْمتى.
وبئر ظَنُونٌ: لا يُوثَقُ بمائها.
ورجل ظَنُونٌ: لا يوثق بخبَره.
وهو مَظِنِّة للخير، وهو من مظانَّه.
وظنَنْت به الخير فكان عند ظنِّى. اهـ.

.تفسير الآية رقم (47):

قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الغالب على أكثر الناس الجمود كرر النداء لهم مبالغة في اللطف بهم إثر الترجية والتخويف فقال: {يا بني إسرائيل} أي الذي أكرمته وأكرمت ذريته من بعده بأنواع الكرامة {اذكروا نعمتي} وفخم أمرها بقوله: {التي أنعمت عليكم} أي بإنزال الكتب وإرسال الرسل وغير ذلك {وإني فضلتكم} والتفضيل الزيادة من خطوة جانب القرب والرفعة فيما يقبل الزيادة والنقصان منه- قاله الحرالي.
{على العالمين} وهم من كان قد برز الوجود في ذلك الزمان بالتخصيص بذلك دونهم، ولا يدخل في هذا من لم يكن برز إلى الوجود في ذلك الزمان كما يأتي تحقيقه عن الحرالي قريبًا ومما يوجب القطع به قوله تعالى لنا: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى إنما أعاد هذا الكلام مرة أخرى توكيدًا للحجة عليهم وتحذيرًا من ترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ثم قرنه بالوعيد، وهو قوله: {واتقوا يومًا} [البقرة: 48، 123] كأنه قال: إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل.
أما قوله: {وأني فضلتكم على العالمين} ففيه سؤال وهو: أنه يلزم أن يكونوا أفضل من محمد عليه السلام وذلك باطل بالاتفاق.
والجواب عنه من وجوه:
أحدها: قال قوم: العالم عبارة عن الجمع الكثير من الناس كقولك: رأيت عالمًا من الناس، والمراد منه الكثير لا الكل، وهذا ضعيف لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو الدليل، فكل ما كان دليلًا على الله تعالى كان عالمًا، فكان من العالم، وهذا تحقيق قول المتكلمين: العالم كل موجود سوى الله، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات.
وثانيها: المراد فضلتكم على عالمي زمانكم وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود لم يكن ذلك الشخص من جملة العالمين حال عدمه لأن شرط العالم أن يكون موجودًا والشيء حال عدمه لا يكون موجودًا.
فالشيء حال عدمه لا يكون من العالمين، وأن محمدًا عليه السلام ما كان موجودًا في ذلك الوقت، فما كان ذلك الوقت من العالمين فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت كونهم أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وهذا هو الجواب أيضًا عن قوله تعالى: {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين} [المائدة: 20].
وقال: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} [الدخان: 32] وأراد به عالمي ذلك الزمان، وإنما كانوا أفضل من غيرهم بما أعطوا من الملك والرسالة والكتب الإلهية، وثالثها: أن قوله: {وأني فضلتكم على العالمين} عام في العالمين لكنه مطلق في الفضل والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة.
فالآية تدل على أن بني إسرائيل فضلوا على العالمين في أمر ما وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور، بل لعلهم وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر وعند ذلك يظهر أنه لا يصح الاستدلال بقوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [آل عمران: 33] على أن الأنبياء أفضل من الملائكة. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {يا بنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} أي على عالمي زمانهم.
وقال بعضهم: من آمن من أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم كانت له فضيلة على غيره وكان له أجران، أجر إيمانه بنبيه عليه السلام وأجر إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثَلاَثَةٌ يُعْطِيهُم الله الأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، مَنِ اشْتَرَى جَارِيَةً فَأحْسَنَ تَأْدِيبَهَا فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَها، وَعَبْدٌ أَطَاعَ سَيِّدَهُ وَأَطَاعَ الله تَعَالَى، وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ» وقال بعضهم: معنى قوله: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} بإنزال المن والسلوى وغيره، ولم يكن ذلك لأحد من العالمين غيرهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

قد تكرر هذا النداء والتذكير بالنعمة، وفائدة ذلك أن الخطاب الأول يصح أن يكون المؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرر إنما هو للكافرين، بدلالة ما بعده، وأيضًا فإن فيه تقوية التوقيف وتأكيد الحض على ذكر أيادي الله وحسن خطابهم بقوله: {فضلتكم على العالمين} لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيل لهم، وفي الكلام اتساع.
قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم: المعنى على عالم زمانهم الذي كانت فيه النبوءة المتكررة والملك، لأن الله تعالى يقول لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا بَنِى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب، فكأنه قال سبحانه إن لم تطيعوني لأجل سوابق نعمتي، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هي فرد من أفرادها.
{وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} عطف على {نِعْمَتِيَ} من عطف الخاص على العام، وهو مما انفردت به الواو كما في البحر، ويسمى هذا النحو من العطف بالتجريد كأنه جرد المعطوف من الجملة، وأفرد بالذكر اعتناءًا به، والكلام على حذف مضاف أي فضلت آباءكم وهم الذين كانوا قبل التغيير، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم، قال الزجاج: والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ نجيناكم} [البقرة: 9 4] الخ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعمًا عليهم، والمراد بالعالمين سائر الموجودين في وقت التفضيل، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يا قوم قَوْمٌ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} [المائدة: 20] فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أمته، الذين هم خير أمة أخرجت للناس وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه ولو صح ذلك يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة، ولا قائل به.
ومن اللطائف أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ} الخ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 8 5] فشتان من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه فالأول: يقتضي الفناء والثاني: يقتضي الإعجاب، والحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

أعيد خطاب بني إسرائيل بطريق النداء مماثلًا لما وقع في خطابهم الأول لقصد التكرير للاهتمام بهذا الخطاب وما يترتب عليه، فإن الخطاب الأول قصد منه تذكيرهم بنعم الله تعالى ليكون ذلك التذكير داعية لامتثال ما يرد إليهم من الله من أمر ونهي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم غير أنه لما كان الغرض المقصود من ذلك هو الامتثال كان حق البلاغة أن يفضي البليغ إلى المقصود ولا يطيل في المقدمة، وإنما يلم بها إلمامًا ويشير إليها إجمالًا، تنبيهًا بالمبادرة إلى المقصود على شدة الاهتمام به ولم يزل الخطباء والبلغاء يعدون مثل ذلك من نباهة الخطيب ويذكرونه في مناقب وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني إذ قال عند سفارته عن ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه طالعها:
خليفةَ الله ساعدَ القدرُ ** عُلاك مالاح في الدجا قمر

ثم قال:
والناس طرا بأرض أندلس ** لولاك ما وطنوا ولا عمروا

وقد أهمتهمُ نفوسُهم ** فوجهوني إليك وانتظروا

فقال له أبو عنان: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم وأذن له في الجلوس فسلم عليه.
قال القاضي أبو القاسم الشريف وكان من جملة الوفد لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا.
فكان الإجمال في المقدمة قضاء لحق صدارتها بالتقديم وكان الإفضاء إلى المقصود قضاء لحقه في العناية، والرجوع إلى تفصيل النعم قضاء لحقها من التعداد فإن ذكر النعم تمجيد للمنعم وتكريم للمنعم عليه وعظة له ولمن يبلغهم خبر ذلك تبعث على الشكر.
فللتكرير هنا نكتة جمع الكلامين بعد تفريقهما ونكتة التعداد لما فيه إجمال معنى النعمة.
والنعمة هنا مراد بها جميع النعم لأنّه جنس مضاف فله حكم الجمع كما في قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوففِ بعهدكم} [البقرة: 40].
وقوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} عطف على {نعمتي} أي واذكروا تفضيلي إياكم على العالمين وهذا التفضيل نعمة خاصة فعطفه على نعمتي عطف خاص على عام وهو مبدأ لتفصيل النعم وتعدادها وربما كان تعداد النعم مغنيًا عن الأمر بالطاعة والامتثال لأن من طبع النفوس الكريمة امتثال أمر المنعم لأن النعمة تورث المحبة.
وقال منصور الوراق:
تعصي الإله وأنت تُظهر حبَّه ** هذا لَعمري في القياس بديعُ

لو كان حُبّك صادقًا لأطعته ** إن المحِب لمن يُحب مُطيع

وهذا التذكير مقصود به الحث على الاتسام بما يناسب تلك النعمة ويستبقي ذلك الفضل.
ومعنى العالمين تقدم عنه قوله: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2] والمراد به هنا صنف من المخلوقات ولا شك أن المخلوقات تصنف أصنافًا متنوعة على حسب تصنيف المتكلم أو السامع، فالعالمون في مقام ذكر الخلق هم أصناف المخلوقات كالإنس والدواب والطير والحوت، والعالمون في مقام ذكر فضائل الخلق أو الأمم أو القبائل يراد بها أصناف تلك المتحدث عنها فلا جرم أن يكون المراد من العالمين هناهم الأمم الإنسانية فيعم جميع الأمم لأنه جمع معرف باللام لكن عمومه هنا عرفي يختص بأمم زمانهم كما يختص نحو: جمع الأمير الصاغة بصاغة مكانه أي بلده ويختص أيضًا بالأمم المعروفة كما يختص جمع الأمير الصاغة بالصاغة المتخذين الصياغة صناعة دون كل من يعرف الصياغة وذلك كقولك: هو أشهر العلماء وأنجب التلامذة، فالآية تشير إلى تفضيل بني إسرائيل المخاطبين أو سلفهم على أمم عصرهم لا على بعض الجماعات الذين كانوا على دين كامل مثل نصارى نجران، فلا علاقة له بمسألة تفضيل الأنبياء على الملائكة بحال ولا التفات إلى ما يشذ في كل أمة أو قبيلة من الأفراد فلا يلزم تفضيل كل فرد من بني إسرائيل على أفراد من الأمم بلغوا مرتبة صالحة أو نبوءة لأن التفضيل في مثل هذا يراد به تفضيل المجموع، كما تقول قريش أفضل من طيء وإن كان في طيء حاتم الجواد.
فكذلك تفضيل بني إسرائيل على جميع أمم عصرهم وفي تلك الأمم أمم عظيمة كالعرب والفرس والروم والهند والصين وفيهم العلماء والحكماء ودعاة الإصلاح والأنبياء لأنه تفضيل المجموع على المجموع في جميع العصور، ومعنى هذا التفضيل أن الله قد جمع لهم من المحامد التي تتصف بها القبائل والأمم ما لم يجمعه لغيرهم وهي شرف النسب وكمال الخلق وسلامة العقيدة وسعة الشريعة والحرية والشجاعة، وعناية الله تعالى بهم في سائر أحوالهم، وقد أشارت إلى هذا آية: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليهم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين} [آل عمران: 20] وهذه الأوصاف ثبتت لأسلافهم في وقت اجتماعها وقد شاع أن الفضائل تعود على الخلَف بحسن السمعة وإن كان المخاطبون يومئذ لم يكونوا بحال التفضيل على العالمين ولكنهم ذكروا بما كانوا عليه فإن فضائل الأمم لا يلاحظ فيها الأفراد ولا العصور.
ووجه زيادة الوصف بقوله: {التي أنعمت عليكم} مر في أختها الأولى. اهـ.